كتاب: إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام



الوجه الثالث: قد تطلق الجنابة على المعنى الحكمي الذي ينشأ عن التقاء الختانين أو الإنزال وقولها: (من الجنابة) في من معنى السببية مجازا عن ابتداء الغاية من حيث إن السبب مصدر للمسبب ومنشأ له.
الوجه الرابع: قولها: (غسل يديه) هذا الغسل قبل إدخال اليدين الإناء وقد تبين ذلك مصرحا في رواية سفيان بن عيينة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة.
الوجه الخامس: قولها: (وتوضأ وضوءه للصلاة) يقتضي استحباب تقديم الغسل لأعضاء الوضوء في ابتداء الغسل ولا شك في ذلك نعم يقع البحث في أن هذا الغسل لأعضاء الوضوء: هل هو وضوء حقيقة؟ فيكتفي به عن غسل هذه الأعضاء للجنابة فإن موجب الطهارتين بالنسبة إلى هذه الأعضاء واحد أو يقال: إن غسل هذه الأعضاء إنما هو عن الجنابة وإنما قدمت على بقية الجسد تكريما لها وتشريفا ويسقط غسلها عن الوضوء باندراج الطهارة الصغرى تحت الكبرى.
فقد يقول قائل قولها: (وضوءه للصلاة) مصدر مشبه به تقديره: وضوءا مثل وضوءه للصلاة فيلزم من ذلك: أن تكون هذه الأعضاء المغسولة مغسولة عن الجنابة لأنها لو كانت مغسولة عن الوضوء حقيقة لكان قد توضأ عن الوضوء للصلاة فلا يصح التشبيه لأنه يقتضي تغاير المشبه والمشبه به فإذا جعلناها مغسولة للجنابة صح التغاير وكان التشبيه في الصورة الظاهرة.
وجوابه- بعد تسليم كونه مصدرا مشبها به- من وجهين أحدهما: أن يكون شبه الوضوء الواقع في ابتداء غسل الجنابة بالوضوء للصلاة في غير غسل الجنابة والوضوء- بقيد كونه في غسل الجنابة- مغاير للوضوء بقيد كونه خارجا عن غسل الجنابة فيحصل التغاير الذي يقتضي صحة التشبيه ولا يلزم منه عدم كونه وضوءا للصلاة حقيقة.
الثاني: لما كان وضوء الصلاة له صورة معنوية ذهنية شبه هذا الفرد الذي وقع في الخارج بذلك المعلوم في الذهن كأنه يقال: أوقع في الخارج ما يطابق الصورة الذهنية لوضوء الصلاة.
الوجه السادس: قولها: (ثم يخلل بيديه شعره) التخليل ههنا: إدخال الأصابع فيما بين أجزاء الشعر ورأيت في كلام بعضهم: إشارة إلى أن التخليل هل يكون بنقل الماء أو بإدخال الأصابع مبلولة بغير نقل الماء؟ وأشار به إلى ترجيح نقل الماء لما وقع في بعض الروايات الصحيحة في كتاب مسلم: «ثم يأخذ الماء فيدخل أصابعه في أصول الشعر» فقال هذا القائل: نقل الماء لتخليل الشعر: هو رد على من يقول: يخلل بأصابعه مبلولة بغير نقل الماء قال: وذكر النسائي في السنن ما يبين هذا فقال باب تخليل الجنب رأسه وأدخل حديث عائشة رضي الله عنها فيه فقالت فيه: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب رأسه ثم يحثي عليه ثلاثا» قال: فهاذا بين في التخليل بالماء انتهى كلامه.
وفي الحديث: دليل على أن التخليل يكون بمجموع الأصابع العشر لا بالخمس.
الوجه السابع: قولها: (حتى إذا ظن) يمكن أن يكون الظن هاهنا بمعنى العلم ويمكن أن يكون هاهنا على ظاهره من رجحان أحد الطرفين مع احتمال الآخر ولولا قولها بعد ذلك: (أفاض عليه الماء ثلاث مرات) لترجح أن يكون بمعنى العلم فإنه حينئذ يكون مكتفى به أي بري البشرة وإذا كان مكتفى به في الغسل ترجح اليقين لتيسر الوصول إليه في الخروج عن الواجب على أنه قد يكتفي بالظن في هذا الباب فيجوز حمله على ظاهره مطلقا.
وقولها: (أروى) مأخوذ من الري الذي هو خلاف الطش وهو مجاز في ابتلال الشعر بالماء يقال: رويت من الماء- بالكسر- أروى ريا وريا وروى وأرويته أنا فروي.
وقولها: (بشرته) البشرة: ظاهر جلد الإنسان والمراد بإرواء البشرة: إيصال الماء إلى جميع الجلد ولا يصل إلى جميع جلده إلا وقد ابتلت أصول الشعر أو كله.
وقولها: (أفاض الماء) إفاضة الماء على الشيء: إفراغه عليه يقال: فاض الماء: إذا جرى وفاض الدمع: إذا سال.
وقولها: (على سائر جسده) أي بقيته فإنها ذكرت الرأس أولا والأصل في سائر أن يستعمل بمعنى البقية وقالوا: هو مأخوذ من السؤر قال الشنفرى:
إذا احتملوا رأسي وفي رأس أكثري ** وغودر عند الملتقى ثم سائري

أي بقيتي وقد أنكر في أوهام الخواص: جعلها بمعنى الجميع وفي كتاب الصحاح: ما يقتضي تجويزه.
الوجه الثامن: في الحديث دليل على جواز اغتسال المرأة والرجل من إناء واحد وقد أخذ منه جواز اغتسال الرجل بفضل طهور المرأة فإنهما إذا اعتقبا اغتراف الماء: كان اغتراف الرجل في بعض الاغترافات متأخرا عن اغتراف المرأة فيكون تطهيرا بفضلها.
ولا يقال: إن قولها: (نغترف منه جميعا) يقتضي المساواة في وقت الاغتراف لأنا نقول: هذا اللفظ يصح إطلاقه- أعني: نغترف منه جميعا- على ما إذا تعاقبا الاغتراف ولا يدل على اغترافهما في وقت واحد.
وللمخالف أن يقول: أحمله على شروعهما جميعا فإن اللفظ محتمل له وليس فيه عموم فإذا قلت به من وجه اكتفى بذلك والله أعلم.
4- عن ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها- زوج النبي صلى الله عليه وسلم- أنها قالت: (وضعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وضوء الجنابة فأكفأ بيمينه على يساره مرتين- أو ثلاثا- ثم غسل فرجه ثم ضرب يده بالإرض أو الحائط مرتين- أو ثلاثا- ثم تمضمض.
واستنشق وغسل وجهه وذراعيه ثم أفاض على رأسه الماء ثم غسل جسده ثم تنحى فغسل رجليه فأتيته بخرقة فلم يردها فجعل ينفض الماء بيده).
الكلام على حديث ميمونة من وجوه:
أحدها: قد تقدم لنا أن الوضوء بفتح الواو وهل هو اسم لمطلق الماء أو للماء مضافا إلى الوضوء؟ وقد يؤخذ من هذا اللفظ: أنه اسم لمطلق الماء فإنها لم تضفه إلى الوضوء بل إلى الجنابة.
الثاني: قولها فأكفأ أي قلب يقال: كفأت الإناء: إذا قلبته- ثلاثيا- وأكفأته أيضا رباعيا وقال القاضي عياض في المشارق: وأنكر بعضهم أن يكون بمعنى قلب وإنما يقال في قلبت: كفأت ثلاثيا وأما أكفأت فبمعنى: أملت وهو مذهب الكسائي.
الثالث: البداءة بغسل الفرج لإزالة ما علق به من أذى وينبغي أن يغسل في الابتداء عن الجنابة لئلا يحتاج إلى غسله مرة أخرى وقد يقع ذلك بعد غسل الأعضاء للوضوء.
فيحتاج إلى إعادة غسلها فلو اقتصر على غسلة واحدة لإزالة النجاسة وللغسل عن الجنابة فهل يكتفي بذلك أم لابد من غسلتين: مرة للنجاسة ومرة للطهارة عن الحدث؟.
فيه خلاف لأصحاب الشافعي ولم يرد في الحديث إلا مطلق الغسل من غير ذكر تكرار فقد يؤخذ منه الاكتفاء بغسلة واحدة من حيث إن الأصل عدم غسله ثانيا.
وضربه صلى الله عليه وسلم بالأرض أو الحائط: لإزالة ما لعله علق باليد من الرائحة زيادة في التنظيف.
الرابع: إذا بقيت رائحة النجاسة بعد الاستقصاء في الإزالة: لم يضر على مذهب بعض الفقهاء وفي مذهب الشافعي خلاف وقد يؤخذ العفو عنه من هذا الحديث ووجهه أن ضربه صلى الله عليه وسلم بالأرض أو الحائط لابد وأن يكون لفائدة ولا جائز أن يكون لإزالة العين لأنه لا تحصل الطهارة مع بقاء العين اتفاقا وإذا كانت اليد نجسة ببقاء العين فيها فعند انفصالها ينجس المحل بها وكذلك لا يكون للطعم لأن بقاء الطعم دليل على بقاء العين ولا يكون لإزالة اللون لأن الجنابة بالإنزال أو المجامعة لا تقتضي لونا يلصق باليد وإن اتفق فنادر جدا فبقي أن يكون لإزالة الرائحة ولا يجوز أن يكون لإزالة رائحة تجب إزالتها لأن اليد قد انفصلت عن المحل على أنه قد طهر ولو بقي ما تتعين إزالته من الرائحة لم يكن المحل طاهرا لأنه عند الانفصال تكون اليد نجسة وقد لابست المحل مبتلا فيلزم من ذلك: أن يكون بعض الرائحة معفوا عنه ويكون الضرب على الأرض لطلب الأكمل فيما لا تجب إزالته.
ويحتمل أن يقال: فصل اليد عن المحل بناء على ظن طهارته بزوال رائحته والضرب على الأرض لإزالة احتمال في بقاء الرائحة مع الاكتفاء بالظن في زوالها.
والذي يقوي الاحتمال الأول: ما ورد في الحديث الصحيح كونه صلى الله عليه وسلم: «دلكها دلكا شديدا» والدلك الشديد لا يناسبه هذا الاحتمال الضعيف.
الخامس: قولها: (ثم تمضمض واستنشق وغسل وجهه وذراعيه) دليل على مشروعية هذه الأفعال في الغسل واختلف الفقهاء في حكم المضمضة والاستنشاق في الغسل: واختلف الفقهاء في حكم المضمضة والاستنشاق في الغسل: فأوجبها أبو حنيفة ونفى الوجوب مالك والشافعي ولا دلالة في الحديث على الوجوب إلا أن يقال: إن مطلق أفعاله صلى الله عليه وسلم للوجوب غير أن المختار أن الفعل لا يدل على الوجوب إلا إذا كان بيانا لمجمل تعلق به الوجوب والأمر بالتطهير من الجنابة ليس من قبيل المجملات.
السادس: قولها: (ثم أفاض على رأسه الماء) ظاهره: يقتضي أنه لم يمسح رأسه صلى الله عليه وسلم كما يفعل في الوضوء وقد اختلف أصحاب مالك على القول بتأخير غسل الرجلين كما في حديث ميمونة هذا: هل يمسح الرأس أم لا؟.
السابع: قولها: (ثم تنحى فغسل رجليه) يقتضي تأخير غسل الرجلين عن إكمال الوضوء وقد اختاره بعض العلماء وهو أبو حنيفة وبعضهم اختار إكمال الوضوء على ظاهر حديث عائشة المتقدم وهو الشافعي وفرق بعضهم بين أن يكون الموضع وسخا أو لا فإن كان وسخا أخر غسل الرجلين ليكون غسلهما مرة واحدة فلا يقع إسراف في الماء وإن كان نظيفا قدم وهو في كتب مذهب مالك له أو لبعض أصحابه.
الثامن: إذا قلنا: إن غسل الأعضاء في ابتداء الغسل وضوء حقيقة فقد يؤخذ من هذا: جواز التفريق اليسير في الطهارة.
التاسع: أخذ من رده صلى الله عليه وسلم الخرقة: أنه لا يستحب تنشيف الأعضاء من ماء الطهارة واختلفوا: هل يكره؟ والذين أجازوا التنشيف استدلوا بكونه صلى الله عليه وسلم جعل ينفض الماء فلو كره التنشيف لكره النفض فإنه إزالة وأما رد المنديل: فواقعه حال يتطرق إليها الاحتمال فيجوز أن يكون لا لكراهة التنشيف بل لأمر يتعلق بالخرقة أو غير ذلك والله أعلم.
العاشر: ذكر بعض الفقهاء في صفة الوضوء: أن لا ينفض أعضاءه وهذا الحديث دليل على جواز نفض الماء عن الأعضاء في الغسل والوضوء مثله وما استدل به على كراهة النفض- وهو ما ورد: «لاتنفضوا أيديكم فإنها مراوح الشيطان»- حديث ضعيف لا يقاوم هذا الصحيح والله أعلم.
5- عن عبد الله بن عمر: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: يا رسول الله أيرقد أحدنا وهو جنب؟ قال: «نعم إذا توضأ أحدكم فليرقد».
وضوء الجنب قبل النوم: مأمور به والشافعي حمله على الاستحباب وفي مذهب مالك قولان أحدهما: الوجوب وقد ورد بصيغة الأمر في بعض الأحاديث الصحيحة وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «توضأ واغسل ذكرك ثم نم» لما سأله عمر إنه تصيبه الجنابة من الليل وليس في هذا الحديث الذي ذكره المصنف متمسك للوجوب فإنه وقف إباحة الرقاد على الوضوء فإن هذا الأمر في قوله عليه الصلاة والسلام: «فليرقد», ليس للوجوب ولا للاستحباب فإن النوم من حيث هو نوم لا يتعلق به وجوب ولا استحباب فإذا هو للإباحة فتتوقف الإباحة هاهنا على الوضوء وذلك هو المطلوب.
والذين قالوا: إن الأمر هاهنا على الوجوب اختلفوا في علة هذا الحكم فقيل: علته أن يبيت على إحدى الطهارتين خشية الموت في المنام وقيل: علته أن ينشط إلى الغسل إذا نال الماء أعضاءه وبنوا على هاتين العلتين: أن الحائض إذا أرادت النوم هل تأمر بالوضوء؟ فمقتضى التعليل المبيت على إحدى الطهارتين: أن تتوضأ الحائض لأن المعنى موجود فيها ومقتضى التعليل بحصول النشاط: أن لا تؤمر به الحائض لأنها لو نشطت لم يمكنها رفع حدثها بالغسل وقد نص الشافعي على أنه ليس ذلك على الحائض فيحتمل أن يكون راعى هذه العلة فنفى الحكم لانتفائها ويحتمل أن يكون لم يراعها ونفى الحكم لأنه رأى أن أمر الجنب به تعبد ولا يقاس عليه غيره أو رأى علة أخرى غير ما ذكرناه والله أعلم.
6- عن أم سلمة رضي الله عنها- زوج النبي صلى الله عليه وسلم- قالت: جاءت أم سليم- امرأة أبي طلحة- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن الله لا يستحيي من الحق فهل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم إذا رأت الماء».
الكلام عليه من وجوه:
أحدها: قولها: إن الله لا يستحيي من الحق هذا تمهيد لبسط عذرها في ذكرها ما يستحيي النساء من ذكره وهو أصل فيما يصنعه الكتاب والأدباء في ابتداء مكاتباتهم ومخاطباتهم من التمهيدات لما يأتون به بعد ذلك والذي يحسنه في مثل هذا: أن الذي يعتذر به إذا كان متقدما.